فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعالبي:

قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس مِن شَرِّ الوسواس الخناس}: {الوسواس}: اسم مِنْ أسماء الشيطانِ، وقوله: {الخناس} معناه: الرَّاجِعُ على عَقِبِهِ المُسْتَتِرُ أحيانًا، فإذَا ذكر العَبْدُ اللَّه تعالى وتعوَّذ، تذكَّر فأبْصَرَ؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ...} [الأعراف: 201] قال النَّوَوِيُّ: قال بعضُ العلماءِ: يُسْتَحَبُّ قول: لا إله إلا اللَّهِ لِمَنِ ابتلي بالوَسْوَسَةِ في الوضوءِ والصلاةِ وشِبْهِهِمَا؛ فإن الشيطان إذا سمع الذِّكرَ، خَنَسَ، أي: تأخَّر وبَعُدَ.
ولا إله إلا اللَّهُ: رَأْسُ الذِّكْرِ؛ ولذلك اختار السَّادَةُ الجِلَّةُ مِنْ صَفْوة هذه الأمة أهْلُ تربيةِ السَّالكين وتأدِيبِ المُرِيدِينَ قول (لا إله إلا اللَّه) لأَهْلِ الخَلْوَةِ، وأمَرُوهم بالمداومة علَيْهَا، وقالوا: أنْفَعُ علاجٍ في دَفْعِ الوسوسةِ الإقبالُ على ذِكْرِ اللَّه تعالى والإكْثَارُ منْه، وقال السَّيِّدُ الجليلُ أحْمَدُ بْنُ أبي الحوارِيِّ: شَكَوْتُ إلى أبي سُلَيْمَانَ الدَّرَانِيِّ الوَسْوَاسَ، فقال: إذا أَرَدت أَنْ ينقطعَ عَنْكَ، فَأَيَّ وَقْتٍ أحْسَسْتَ به، فافرح، فإنك إذا فَرِحْتَ به، انقطع عنك؛ لأنه ليْسَ شيءٌ أبْغَضُ إلى الشيطانِ مِنْ سرورِ المؤمن، وإن اغتممت بِه، زَادَكَ.
* ت *: وهذا مما يؤيِّد ما قاله بَعْضُ الأئمة؛ أنَّ الوسواس إنما يبتلى به مَنْ كَمُلَ إيمانه؛ فإن اللِّصَّ لا يقصدُ بيتًا خَربًا. انتهى.
* ت *: ورأيتُ في (مختصر الطبريِّ) نَحْوَ هذا.
وقوله تعالى: {مِنَ الجنة} يعني: الشياطينَ، ويظهر أنْ يَكُونَ قوله: {والناس} يراد به: مَنْ يُوَسْوِسُ بخدعة مِنَ الشَّرِّ، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كَالشَّيْطان، قال أحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الداوديُّ: وعن ابن جُرَيْجٍ: {مِنَ الجنة والناس} قال: «إنهما وَسْوَاسَانِ، فَوَسْوَاسٌ من الجِنَّة، ووَسْوَاسٌ مِنْ نَفْسِ الإنسان» انتهى، وفي الحديث الصحيحِ «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا آوى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا استطاع مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأ بِهِما مِنْ رَأْسه وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ؛ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا». يَقول العبدُ الفقيرُ إِلى اللَّه تعالى: عَبْدُ الرحمن بْنُ مُحَمِّدِ بْنِ مَخْلُوفٍ الثَّعَالِبِيُّ لَطَفَ اللَّهُ به في الدارَيْنِ: قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في إِتمام تَِلْخِيصِ هذا المختَصَر؛ وقَدْ أودَعتُهُ بحَوْلِ اللَّهِ جزيلًا من الدُّرَر، قد استوعبت فيه- بِحَمْدِ اللَّهِ- مُهِمَّاتِ ابْنِ عِطَيَّةَ، وأسقطْتُ كَثيرًا من التَّكْرار، وما كان من الشَّواذِّ في غاية الوهي، وزدْتُ من غيره جَوَاهِرَ ونَفَائِسَ لا يستغنى عنها مميزةً معزوَّة لِمَحَالِّها مَنْقولةً بألفاظِهَا، وتوخَّيْتُ في جميع ذلك الصِّدْقَ والصَّواب، وإلى اللَّه أَرْغَبُ في جَزِيلِ الثواب، وقد نَبَّهْتُ بَعْضَ تَنْبِيهٍ، وعرَّفْتُ بأيام رِحْلَتِي في طَلَبِ العِلْمِ بعْضَ تعريفٍ عِنْدَ خَتْمِي لتفسير سورة الشورى؛ فَلْيَنْظُرْ هُنَاكَ، واللَّهُ المَسْؤُولُ أنْ يجعَلَ هذا السعْيَ منا خالصًا لوَجْهِهِ، وعملًا صالحًا يقرِّبنا إلى مرضاته، ومَنْ وَجَدَ في هذا الكتاب تَصْحِيفًا أو خَلَلًا فَأَرْغَبُ إِلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَهُ مِنَ الأُمِّهاتِ المَنْقول منها متثبِّتًا في ذلك لا برَأْيه وبديهةِ عَقْلِهِ: من الوافر:
فَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قولا صَحِيحًا ** وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ

وكان الفراغُ من تألِيفه في الخامسَ عَشَرَ مِنْ رَبِيع الأَوَّلِ مِنْ عَامِ ثَلاَثَةٍ وثَلاَثِينَ وَثَمَانِمائَةٍ وَأَنَا أَرْغَبُ إِلى كُلِّ أَخ نَظَرَ فيه أنْ يُخْلِصَ لي وَلَهُ بِدَعْوَةٍ صالحةٍ، وهذا الكتابُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَخْلُوَ عنه مُتَدَيِّنٌ، ومُحِبٌّ لكلامِ رَبِّه، فإِنه يَطَّلِعُ فيه على فَهْمِ القرآن أجْمَعَ في أَقْرَبِ مُدَّةٍ، وليس الخَبَرُ كَالعِيَانِ، هذا مَعَ مَا خُصَّ بِهِ تَحْقِيقِ كَلامَ الأَئِمَّةِ المحقِّقينَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم- نَقَلْتُهُ عَنْهُمْ بألفاظِهِمْ متحرِّيًا لِلصَّوَابِ، ومِنَ اللَّهِ أَرْتَجِي حُسْنَ المَآب، وصَلَّى اللَّهُ على سَيِّدِنَا محمَّد خاتَمِ النبيِّينَ، وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين، وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الناس:
مكية.
وهي ست آيات.
وعشرون كلمة.
وتسعة وتسعون حرفًا.
{بسم الله} المحيط بكل ما بطن كإحاطته بكل ظاهر {الرحمن} الذي عمت نعمته كل باد وحاضر {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم الأوّل منها والأثناء والآخر.
ولما أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة مما تقدّم أمره أن يستعيذ من شر الوسواس بقوله تعالى: {قل}، أي: يا أشرف المرسلين {أعوذ}، أي: اعتصم والتجئ {برب}، أي: مالك وخالق {الناس} وخصهم بالذكر وإن كان رب جميع المحدثات لأمرين:
أحدهما: أنّ الناس يعظمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا.
الثاني: أنه أمر بالاستعاذة من شرهم فاعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم.
قال الملوي: والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب.
وقوله تعالى: {ملك الناس} إشارة إلى أنّ له كمال التصرف ونفوذ القدرة، وتمام السلطان فإليه الفزع، وهو المستغاث والملجأ والمنجا والمعاد. وقوله تعالى: {إله الناس} إشارة إلى أنه تعالى كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في ألوهيته أحد، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإنّ الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة الذي هو بمعنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال. والملك هو الآمر والناهي المعز المذل إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأمّا الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، ولتضمنها لجميع معاني الأسماء الحسنى كان المستعيذ جديرًا بأن يعاذ، وقد يوقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الواحدانية لأنّ من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة علم أنّ له مربيًا، فإذا درج في العروج في درج معارفه سبحانه علم أنه غني عن الكل والكل إليه محتاج، وعن أمره تعالى تجري أمورهم فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها.
فائدة:
قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه، لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء. والملك بكسر الميم أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها.
تنبيه:
يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس، وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان، واقتصر عليه الزمخشري قال: كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بيانًا بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} (التوبة) وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه فجعل غاية للبيان..
فإن قيل: هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟
أجيب: بأنّ عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار.
{من شر الوسواس} وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي، ويقال لحس الصائد، والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». كما في الصحيح فهو الذي يوسوس بالذنب سرًا ليكون أحلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان، فإذا أوقعه وسوس لغيره إن فلانًا فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك كأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه فلا يكون شيء غير الذي كان فيجترئ على الذنب.
ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السأم وهو الموت، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى: {الخناس}، أي: الذي عادته أن يخنس، أي: يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة كلما كان الذكر خنس وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلًا كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر.
قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه فذلك قوله تعالى: {الذي يوسوس}، أي: يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير {في صدور الناس}، أي: المضطربين إذا أغفلوا عن ذكر ربهم من غير سماع.
وقال مقاتل: إنّ الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله تعالى على ذلك.
وقال القرطبي: وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
تنبيه:
يجوز في محل {الذي يوسوس} الحركات الثلاث، فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين.
وقوله تعالى: {من الجنة}، أي: الجنّ الذين هم في غاية الشر والتمرد، والخناس {والناس}، أي: أهل الاضطراب والذبذبة بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وأنسي كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجنّ} (الأنعام)
ويجوز أن يكون بدلًا من الذي يوسوس، أي: الموسوس من الجن والإنس، وأن يكون حالًا من الضمير في يوسوس، أي: حال كونه من هذين الجنسين.
وقيل: غير ذلك.
قال الحسن: هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس.
وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال: أومن الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ} الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناسًا كما سموا رجالًا في قوله تعالى: {وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} (الجن) وكما سموا نفرًا في قوله تعالى: {قل أوحي إلى أنه استمع نفر من الجن} (الجن)
وكما سموا قومًا نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال: وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون والناس عطفًا على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال: أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة.
وقيل: إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عامًا في الجميع.
و{من الجنة والناس} بيانًا لما يوسوس في صدروهم.
وقيل: معنى {من شر الوسواس} الوسوسة التي تكون {من الجنة والناس} وهو حديث النفس.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به».
وعن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط {أعوذ برب الفلق} و{أعوذ برب الناس}».
وعنه أيضًا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذ؟ قلت: بلى، قال: {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهم وقرأ {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجه وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات».
وعنها أيضًا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأهما عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها».
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار».
وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي: الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل».
وعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لأحد ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به».
لطيفة:
نختم بها كما ختم بها الفخر الرازي رحمه الله تعالى تفسيره، وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأمّا في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة.
والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أنّ مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير فدونك تفسيرًا كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد جمع من التفاسير معظمها ومن القراءات: متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرّر الدلائل في هذا الفنّ مظهرًا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ، فإذا ظفرت بفائدة شاردة فادع لي بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة:
فلابدّ من عيب فإن تجدنه ** فسامح وكن بلستر أعظم مفضل

فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له ال ** محاسن قد تمت سوى خير مرسل

وأنا أعوذ بجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعًا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلًا إليه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وبالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من مصابرتي على تواكل من القوي، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين في عمل هذا التفسير المبين عن حقائقه المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، المكتنز بالفوائد التي لا توجد إلا فيه المحيط بما لا يكتنه من بديع ألفاظه، ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها. هذا ولسان التقصير في طول مدحه قصير:
أعيذه بالمصطفى من حاسد قد هما ** بذمّه وقد غدا من أجله مهتما

فليس يبغي ذمّه إلا بغيض أعمى ** كفاه ربي شرهم وزان منه الرسما

وزاد في تدبيرهم تدميرهم والغما ** وردّهم بغيظهم فلم ينالوا غنما

وزاده سعادة ولازمته النعمى

فنسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، والإعطاء والمنع أن يجعله لوجهه خالصًا، وإن يداركني بألطافه إذ الظل أضحى في القيامة قالصًا، وأن يتجاوز عني إنه السميع العليم، وأن يرفع به درجتي في جنات النعيم، وأن يجعله ذخيرة لي عنده إنه ذو الفضل العظيم، وأن ينفع به من تلقاه بالقبول إنه جواد كريم، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدّني بحسن المعونة، وأن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، وأن يتجاوز عن فرطاتي يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد أنا ووالدي وأولادي، وأقاربي وأحبابي، ويحلنا دار المقام من فضله بواسع طوله وسابغ نوله إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، وهذا شيء ما كان في قدرتي فإني والله معترف بقصر الباع، وكثرة الزلل، ولكن فضل الله وكرمه لا يعلل بشيء من العلل. فلهذا رجوت أن أكون متصفًا بإحدى الخصال الثلاث التي إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا منها، بل أرجو من الله الكريم، اجتماعها إنه جواد كريم حليم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين المبارك، ثالث عشر صفر الخير، من شهور سنة ثمان وستين وتسعمائة من الهجرة النبوّية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه القريب محمد بن أحمد الشربيني الخطيب غفر الله تعالى له ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه والمسلمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمرسلين والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، مصحح دار الطباعة جمل الله طباعه قد تم طبع السراج المنير بعون الله الملك القدير، وهذا الكتاب العجيب المنسوب للأمام الخطيب قد اعتنت بتحريره دار الطباعة، وبذلن في تنقيره غاية الاستطاعة، فأزالت عنه ربقة التحريف، وأطلقته من أسر التصحيف بمراجعة أصول أساليبه، والبحث عن صواب تراكيبه، فحصلت بركاته وعمت نفحاته، وأنار الآفاق بدر وجوده، وروى الظماء قاموس فضله وجوده، وتحلت بصحاح جواهر معانيه أجياد مباشريه ومبتاعيه، ثم إنّ تمام بيعه في اثنا طبعه أوّل دليل على عموم نفعه، وهذا كما يقع في خلدي ويقيني من كرامات مؤلفه محمد بن أحمد الشربيني وكان تمام طبعه بدار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر القاهرة على ذمّة هذه المصلحة الميمونة التي هي بطالع السعد مقرونة في سنة خمس وثمانين ومائتين وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف، مشمولًا بنظر المجدّ في نفع أوطانه، الباذل مروءته في قضاء حاج إخوانه من عليه أحاسن أخلاقه تثنى حضرة حسين بك حسني، فإنه لا يزال باحثًا عن عموم المنافع عند وجود المقتضيات، وزوال الموانع في ظل من تعطرت الأفواه بطيب ثنائه، وبلغ من كل وصف جميل حدّ انتهائه، ومحا ظلم الظلم بسنا صورته، وأثبت مراسم العدل بحسن سيرته، وأفاض على أهل مملكته غيوث إنعامه وإحسانه، وشملهم بعظيم رأفته ومزيد امتنانه، وبسط لهم بساط عدله، وحلاهم بحلي جوده وفضله. عزيز الديار المصرية، وحامي حمى حوزتها النيليه بشدّة بأسه وعزمه الجلي، سعادة أفندينا إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على لا زال ملحوظًا بعين العناية الإلهية، موفقًا لسائر الآراء الخيرية محفوظ الجناب، مقصود الأعتاب، مسرورًا بسائر الأنجال بجاه خاتم رسل ذي الجلال. ولما تهيأ للتمام والكمال، ولبس من حسن الطبع حلة الجمال انطلق لسان اليراع يقرظه، وبعين الإطراء يلحظه فقال:
كلام الله أفضل ما رواه ** رسول الله عن جبريل قطعا

عجائبه يحار اللب فيها ** وليست تنقضي بدعًا وصنعا

وخادمه بتفسير المعاني ** أجل الناس منقبة ووضعا

ولاسيما الخطيب أبو المعالي ** مبين الآي أفذ إذا وشفعا

هو التفسير إيضاحًا وبسطًا ** ومتبعوه أرقى الناس طبعا

ولما تم حسنًا قلت أرخ ** وفي أوب الخطيب وتم طبعًا

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المؤيد بباهر المعجزات، وعلى أصحابه الكرام البررة، وآل بيته المنتخبين الخيرة ما توالى الجديدان وتعاقب النيران. اهـ.